الحمد لله الفتّاح العليم، يمن على من يشاء من عباده بالفتح والفهم فيوفقهم ويهديهم, ويفتح لهم المغاليق, سبحانه وتعالى.
معاني اسم الله الفتّاح
ومعنى اسم الله (الفتّاح): كثير الفتح على عباده, وبيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق.
والفتّاح هو الحاكم والقاضي, يفتح مواضع الحق ويحكم بين العباد فيما هم فيه يختلفون, وهو خير الفاتحين عز وجل, وقد قال نوح عليه السلام يطلب الفتح من ربه بينه وبين قومه: { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }(سورة الشعراء: 117 – 118), وفي آية أخرى: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} (سورة الأعراف: 89), وهو الذي يفتح على عباده المؤمنين بالنصر كما قال سبحانه: { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} (سورة المائدة: 52), وهو الذي فتح على نبيه صلى الله عليه وسلم بصلح الحديبية الذي جاء من بعده الخير الكثير للمسلمين, فأنزل الله على نبيه: { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} (سورة الفتح: 1), وهو سبحانه يفتح أبواب الرزق لمن يشاء, {
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا
يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
}(سورة فاطر: 2)
فتح لعباده أبواب الرحمة والأرزاق المتنوعة, وفتح
لهم خزائن جوده وكرمه، فما يأتيهم من مطر، أو رزق، فلا يقدر أحد أن يمنعه,
وما يمسك سبحانه وتعالى ويمنع، فلا يستطيع أحد أن يرسله, فعنده الخزائن
وبيده الخير, وهو الجواد المنان الفتّاح, يفتح ما
انغلق من الأمور والأحوال, فييسرها منه كرماً, ويتفضل بقضاء الحوائج
وتفريج الكربات, ويذهب ضيق النفس وضيق الجهل وضيق الفقر, فبعنايته تنفتح
المغاليق, وبهداه تنفتح المشكلات, وبتيسيره تنفتح الصعوبات والكربات.
يفتح بلطفه وتوفيقه بصائر الصادقين فيرون الحق, { وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ }
(سورة هود: 88), فيسهّل لهم سبل الخير والطاعة, وييسرها عليهم, ويهديهم
إليها ويسوقهم لها, وهكذا بحوله وقوته لا بحولهم وقوتهم, ومن أسماء نبينا
صلى الله عليه وسلم في التوراة وصفته فيها ما ورد بأنه: (( لن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء, ويفتح به أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً)) رواه البخاري(2018)، فأشرقت الأرض برسالته بعد الظلمات, وتألفت به قلوب المسلمين بعد الشتات, صلوات الله وسلامه عليه.
كانت قلوب هي كالحجارة بل أشد, أشد قسوة فلانت, وعقول بها أنواع المغاليق
من الشرك والكفر والجاهلية فاستنارت, وبقي أناس في الجاهلية لا يبصرون, { لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} (سورة الأعراف:179), فهم لا يفهمون الحق ولا يرون الحق, ولا يسمعون الحق, فجاء الله سبحانه للمسلمين بفرقان, قال
المقداد: "والله لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم على أشد حال بعث عليها
نبي, ما يرون, -يعني أهل الجاهلية-, ديناً أفضل من عبادة الأوثان, فجاء
بفرقان حتى إن الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل
قلبه للإيمان؛ ليعلم أنه قد هلك من دخل النار" (الأدب المفرد:87), وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
ومن الفتوحات ما يفتح الله به على نبيه صلى الله
عليه وسلم إذا سجد تحت العرش يطلب الشفاعة من ربه في فصل القضاء بين
العباد, وقد بلغ بالناس ما بلغ من الكربات في ذلك اليوم, قال عليه الصلاة
والسلام: ((فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد
أحمده بها لا تحضرني الآن, فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً فيقول: يا
محمد ارفع رأسك, وقل يسمع لك, وسل تعط واشفع تشفع))، رواه
البخاري(7072)، فيفتح الله عليه من أسمائه ما لا يعلمه إنسان, ومن المحامد
ما لم تدركه العقول, فيسأله بها فيعطيه, وذلك المقام المحمود الذي يحمده
عليه كل الخلائق.
ومن الفتوحات ما يفتح الله به من البلاد على
المسلمين, وينصرهم على أهل الشرك, وهكذا فتح للصحابة جزيرة العرب بأكملها,
وكذلك فتح عليهم فارس والروم, فما أعظمه من فتح, وقد دخلت جيوشهم بلاد مصر
ففتحتها أيضاً، وهكذا لا يزال المسلمون بعدهم من فتح إلى فتح حتى اتسعت
رقعة مملكة الإسلام فصارت إلى ما ترى.
أنواع فتح الله على عباده
فتح على عباده ويفتح سبحانه وتعالى أبواب
الطاعات، والتأمل في أسماء الله يا عباد الله أمر عظيم، ويغيب عن بالنا
كثيراً، من معاني هذه الأسماء كثيراً فننسى ولا نتعبد ولا نسأل، ويذهل
المسلم عن بعض أسمائه سبحانه ومنها الفتّاح.
يفتح على من يشاء من أبواب الطاعات والقربات على تنوعها وألوانها وصنوفها، على درجاتها، ومن الناس من يفتح عليهم
في القرآن، والعناية به، وحفظه، وتجويده، وضبطه، وإتقانه، وتلاوته،
والقدرة على تعليمه، وبعضهم يختم القرآن في ليلة، ومن عباد الله من يفتح
عليه في الصلاة فتكون أشد حلاوة من العسل، حتى إنه ربما يصلي في الليل
مئات الركعات، ومنهم من يفتح له في الدعاء كما قال مالك: "ربما انصرف عامر
من العتمة، فيعرض له الدعاء – يعني بعد العشاء - يخطر بباله، فلا يزال يدعو
إلى الفجر" عنده قوة وصبر ولذة بهذه العبادة، وسجد موسى ابن جعفر سجدة أول
الليل، فجعل يدعو في سجوده "عظم الذنب عندي فليحسن العفو من عندك يا أهل
التقوى ويا أهل المغفرة" فما زال يرددها حتى أصبح.
ومنهم من يفتح له في الصيام حتى إنه ليصوم يوماً ويفطر يوماً، وهو سهل عليه.
ومنهم من يفتح له في صلة الأرحام، فلا يزال يزورهم، ويحسن إليهم، ويبرهم ويجمعهم، ويأتيهم ويأتونه فيدعوهم وهكذا... يفتح عليه في باب الصلة والبر.
ومنهم من يفتح له في مساعدة المحتاجين وإغاثة
الملهوفين، وتفريج كربات المكروبين، وتسديد ديون الغارمين، وكفالة اليتامى
والمساكين والمعوزين، وحمل الأرامل والفقراء، ورعايتهم، ومواساتهم وهكذا..
ومنهم من يفتح عليه في باب الاحتساب، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر لا
يخاف في الله لومة لائم، ويصبر على الأذى، ولا يزال يتبع المنكرات ويتتبعها
ويحذر منها، وينهى عنها، ويخيف أهلها، وهكذا... فيكون على يديه من الخير
ما يكون.
ومنهم من يفتح عليه في أبواب الشفاعة والإصلاح
بين الناس، فيفك أسيراً، ويحقن دماً، ويمنع باطلاً، ويحجز ظلماً، ويقيم
حقاً، ويسعى في الإصلاح بين المتخاصمين، وهكذا.. ترد الزوجة إلى زوجها،
والزوج إلى زوجته بمثل جهوده.
ومنهم من يفتح له في باب العلم وما أشرفه، وفي تعليمه فيكون عنده من الحفظ والفهم والإتقان، والقدرة على التأليف والتدريس والتصنيف والتعليم ما يفتح له، قال مالك رحمه الله: "إن
الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة – يعني في
النوافل؛ لأن الكل في الفرائض مشتركون–، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح
له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة، ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له
في الجهاد، ثم قال: فنشر العلم من أفضل أعمال البر، وقد رضيت بما فتح لي
فيه" نقله الذهبي في السير.
فإذا فتح لك يا عبد الله في باب، فرأيت في صدرك انشراحاً له، وفي قلبك إقبالاً عليه، ورأيت تيسير أمورك فيه، فازدد منه، وانتهز الفرصة، قال حكيم بن عمير: "من فتح له باب خير فلينتهزه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه".
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون
ومنهم من يفتح له في باب التربية، وتنشئة الجيل
والنشء فيتعاهدهم، ويسير بهم شيئاً فشيئاً إلى كمالهم، وهكذا يريبهم بصغار
العلم قبل كباره، وبقواعده وأسسه قبل فروعة وتفصيلاته، وهكذا ينقلهم في
منازل الإيمان منزلة بعد منزلة، وفي منازل العلم منزلة بعد منزلة بتوفيق من
الله عز وجل، والحزم انتهاز الفرصة فيما يفتح لك يا عبد الله، فسر فيه،
وتوكل على الله، فإذا جاء أجلك وأنت عليه فما أحسنك، قال عليه الصلاة و
السلام: (( إذا أراد الله عز وجل بعبد خير عسله، قيل: وما عسله؟ قال: يفتح الله عز وجل له عملاً صالحاً قبل موته ثم يقبضه عليه)) رواه أحمد(17784) وهو حديث صحيح.
والعسل: طيب الثناء، فشبه ما رزقه الله من العمل الصالح الذي طاب به ذكره
بين الناس بالعسل، الذي يجعل هذا المطعوم حلواً فيطيب في مذاقه.
ومن أراد الله به خيراً فتح له باب التوبة باستمرار، قال ابن القيم رحمه الله: "إذا
أراد الله بعبده خيراً فتح له أبواب التوبة، والندم، والانكسار، والذل،
والافتقار، والاستعانة به، وصدق اللجأ إليه، ودوام التضرع والدعاء، والتقرب
إليه بما أمكنه من الحسنات، ورؤية عيوب نفسه، ومشاهدة فضل ربه، وإحسانه،
ورحمته، وجوده وبره".
قال معروف: "إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عليه باب
الجدل، وإذا أراد بعبد شراً أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل".
والذين فتح الله عليهم في تعليم العلوم أنواع، فمنهم من فتح عليه في تعليم التوحيد، وعقيد الإسلام، ومنهم فتح عليه في تعليم الحديث، وتعلم فنونه، ومهاراته، ومصطلحه، وتمييز صحيحه من سقيمه، وتبويبه ومعاني غرائبه وألفاظه، ومنهم من فتح له في الفقه، ومذاهبه، وأقوال العلماء فيه، والتمييز بينها، ومعرفة الراجح منها، ومنهم من فتح له في التفسير، ومعرفة كلامه، ومعانيه، وما فيه من الأحكام والأسرار العظيمة.
ومنهم من فتح له أبواب العلوم الغامضة كالمشتبه، { أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
(سورة آل عمران: 7)، فمنهم من فتح له أبواب الغوامض المستعصية، والأقفال
المستغلقة فطوعها له، وسهلها عليه وهذا شأن المحققين من العلماء، ولذلك كان
الموفق منهم من يلجأ إلى الله كلما استغلقت عليه المسائل.
"كنت كلما أتحير في مسألة أتردد إلى الجامع وصليت
وابتهلت إلى الله حتى يفتح لي المنغلق منه" هكذا يقول أحدهم، إن عجزت عن
علم فقلت: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، وهكذا لا يقدم
العالم على ما لم ينفتح له، وإنما يتريث ويتأنى ويسأل ربه حتى يفتح عليه.
ومن الناس من فتح له في العلم في تصنيفه وجمعه،
ولذلك تراهم يسمون كتبهم فتح الباري، فتح المنعم، فتح المغيث، فتح الوهاب،
فتح المعين، فتح القدير، فتح العزيز، فتح المجيد، فتح رب البرية، الفتح
الرباني، وهذه كلها أسماء كتب من كتب المسلمين.
وأحياناً يخفى الحق على بعض الناس، أو يترددون فيه، فيفتح الله على بعضهم فتحاً عظيماً تكون له المسألة فيه واضحة، فيمضي الناس بعده على إثره، كما حدث للصديق رضي الله عنه في قتال المرتدين ومانعي الزكاة.
يقول عمر: فو الله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعلمت أنه الحق" {
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ
رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}(سورة الزمر: 22)، والفتح الذي يفتح الله به على عباده يكون له علاقة مباشرة بطهارة قلوبهم، واتّباعهم لما يحبه، واجتنابهم لما يبغضه.
ويكون من الفتح أيضاً الإلهام الذي يلهمه الله تعالى من يشاء من عباده،
فيكون ملهماً موفقاً مصيباً للحق لا يختار بين أمرين، إلا اختار الأصوب،
قال عليه الصلاة والسلام: ((لقد كان فيمن كان قبلكم
رجال محدثون – يعني ملهمون– يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في
أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب)) رواه البخاري(3486)، ومسلم(6357)، فيجري الصواب على لسانه، كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: (( إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه)) قال ابن عمر: "ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر فيه، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر" رواه أحمد(9213)، والترمذي(3628)، وهو حديث صحيح.
ولذلك كثرت موافقاته لربه، كما كان يتمنى أن تنزل الصلاة عند مقام إبراهيم
فنزلت، قال: يا رسول الله: لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}
(سورة البقرة: 125)، قلت: يا رسول الله: لو أمرت نسائك أن يحتجبن فإنه
يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه
وسلم في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية على لفظ عمر، وكذلك وافق ربه في شأن أسارى بدر، وجاءت موافقته في منع الصلاة على المنافقين، وأيضاً في تحريم الخمر، قال
ابن حجر رحمه الله: وقفنا منها على خمسة عشر موضعاً، وكان لعمر بصيرة
نافذة، وفراسة ثاقبة، قال مرة لرجل: ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال:
ابن شهاب، قال: مِن مَن؟ قال: من الحرقة، هذا البطن الذي هو منه من
القبائل، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرّة النار، قال: بأيها - حرة النار واسعة –
قال: ذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، فذهب الرجل فكان كما قال
عمر رضي الله عنه" رواه مالك في الموطأ (1753).
هذه أنوار يقسمها الله كيف يشاء، { وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} (سورة النور : 40).
أسباب فتح الله على العبد
إن للفتح من الله على العبد أسباباً لا بد أن تتوفر عند العبد فمنها:
التوكل عليه واللجوء إليه، ودعاؤه والطلب منه، والركون إلى جنبه، فإن العبد
إذا عقد أمله بالله، ولم يرج إلا الله، ولم يدع غيره، ولم يثق إلا به، ولم
يتوجه إلا إليه، فتح الله عليه ما أغلق من الأبواب، وما استعصى من
المسالك، وهذا الصدق في قلب العبد هو السبب في توفيق الرب سبحانه وتعالى،
فإذا ركن العبد إلى ربه، فتح عليه من رحمته، وسكون قلبه، وطمأنينة نفسه،
حتى لو كان مسجوناً مأسوراً في جب عميق،{ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا } (سورة الكهف: 16)
قال شيخ الإسلام، وهو في حبسه بالإسكندرية: "إني
والله العظيم في نعم من الله ما رأيت مثلها في عمري كله، وقد فتح الله
سبحانه من أبواب فضله ونعمته، وخزائن جوده ورحمته، ما لم يكن بالبال، ولا
يدور في الخيال، ثم قال: فإن اللذة، والفرحة، والسرور، وطيب الوقت، والنعيم
الذي لا يمكن التعبير عنه، إنما هو في معرفة الله وتوحيده والإيمان به،
وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، ألا ترى أن بعض الناس إذا
قرؤوا القرآن انفتح لهم في معانيه، انفتح لهم في أسراره، شيء عظيم، وذلك
بما لديهم من العلم بلغة العرب، وأسباب التنزيل، وآلات التأويل والتفسير،
مع الصدق مع الله واللجوء إليه، فاتخذ الأسباب بامتلاك الآلة، وتوكل على
الله فانفتحت المغاليق، { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (سورة البقرة: 282)، فالتقوى من أعظم أسباب الفتح من الرب، في الرزق والبركة والعلم والطمأنينة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}(سورة الأعراف: 96)، فبالتقوى يأتيك الرزق، ويفتح الله عليك
من أبوابه ما يفتح، من تجارات، وبركة في بيعك وشراء وصفقات، وتوفيق
وإلهام، وحدس صحيح فيما تختار من أنواع الاستثمار مثلاً، فتجد أن الأرباح
تأتي فيه والتيسير من الله بما تُرزقه منه سبحانه وتعالى، فيفتح الله لبعض
الناس في الصناعة، ولبعضهم في الزراعة، ولبعضهم في التجارة، فهذا في
المستوردات، وهذا في العقار، وهذا في اللباس، وهذا، وهذا.. من الأنواع
المختلفة، ويدعي بعض المنحرفين أن عندهم فتوحات إلهية، وليس عندهم إلا بدع
شيطانية، وإرث شركي من أهل الجاهلية، ولذلك حذر علماؤنا منهم فقالوا: "لو
رأيتم الرجل يطير في الهواء، ويمشي على الماء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا
أين يقع من أوامر الله ونواهيه، وما هي متابعته للنبي صلى الله عليه وسلم"
ولذلك يكون عند الدجالين من الخوارق، والاتصال بالشياطين، ما يغرون به
كثيراً من الناس، فيظنونه فتحاً إلهياً وهو في الحقيقة أحوال شيطانية، وقد يفتح الله على بعض أهل المعاصي من الرزق ما يغترون به، ويكون سبباً في هلاكهم، وهذا من مكر الله بهم، كما قال سبحانه: {
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ
شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } (سورة الأنعام: 44)، فتأمل في هذه
الأحوال، وكيف انتقل القوم بها من حال إلى حال، باستدراج من الله ومكر،
أولاً: نسوا ما ذكروا، أعرضوا، عصوا، تأبوا وتمردوا وعاندوا.
المرحلة الثانية: فتحنا عليهم أبواب كل شيء، فظنوا أنه راض عنهم، فلماذا أعطاهم إذا كان ساخطاً عليهم؟، فجاء التلبيس من إبليس.
ثالثاً: حتى إذا فرحوا بما أوتوا فجاءت مرحلة الفرح، عندما أتى هذا العطاء
من أبواب متعددة، باب كل شيء، جاءت المرحلة الرابعة المفاجئة، أخذناهم
بغتة، وفجأة، وانتقم منهم، وهم غافلون، فكان الوقع الأليم لهذا الانتقام
فصاروا في المرحلة الخامسة، فإذا هم مبلسون، هالكون يائسون، فلا بد إذن أن
يتمسك العبد بدين ربه، وأن يقبل عليه، وأن يتعلم كتابه، وسنة نبيه - صلى
الله عليه وسلم -؛ ليفتح ربه عليه، وإذا ضاقت عليك الأرزاق، وعظمت الهموم،
وكثرت الغموم والديون، فاقرع بابه، ولا يخيب قارع الباب؛ لأنه الكريم
الجواد، لم يقف أحد ببابه فرده، ولا رجاه عبد فخيبه، ولا طرق الباب مع
الإلحاح أحد فأغلق دونه، من أدمن الدعاء، ولازم قرع الباب فتح له.
وعندما ندخل بيت ربنا نقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، ومن أعظم أسباب الفتح التزام السنة، من أمَّر السنة على نفسه، فجعلها أميرة تأمره وتنهاه، ويطيعها فتح الله عليه، { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} (سورة النور: 54)، وللخزائن مفاتيح، فطوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير، وبؤساً لعبد جعله الله مفتاحاً للشر.
اللهم نور قلوبنا بذكرك، وافتح علينا بطاعتك، اللهم إنا نسألك أن تجعل في
أبصارنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وفي قلوبنا نوراً، وفي ألسنتنا نوراً،
وفي أيماننا نوراً، وفي شمائلنا نوراً، ومن أمامنا نوراً، ومن خلفنا
نوراًَ، ومن فوقنا نوراً، ومن تحتنا نوراً، وأعظم لنا نوراً
اللهم افتح علينا بفتحك يا رب العالمين، وآتنا من الفتح المبين، اللهم افتح
علينا بهداك، وافتح علينا برحمتك، اللهم افتح علينا خزائن رزقك، اللهم إنا
نسألك أن تفتح قلوبنا بالإيمان، اللهم إنا نسألك أن تفتح بيننا وبين
أعدائنا فتحاً وأنت خير الفاتحين، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم
انصرنا على اليهود والصليبيين والمنافقين، وأهل البدعة المشركين، اللهم عجل
نصر هذه الأمة يا رب العالمين، وارزقنا الأمن والإيمان في وطننا وأوطان
المسلمين، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، وأحسن
خاتمتنا، واقض ديوننا، وتب علينا، واشف صدورنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخائم
قلوبنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر لنا ولوالدينا، ولإخواننا وأخواتنا من
المؤمنين والمؤمنات يوم يقوم الحساب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين