فى التوسل بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله
التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وجوده
توسل آدم به:
وقد جاء في الحديث أن آدم توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال الحاكم في المستدرك: عن عمر – رضي الله عنه – قال:
((قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لما اقترف آدم الخطيئة قال: يارب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: ياآدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يارب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت فيَّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إليَّ، أدعني بحقه فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك)).
أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه [ج2 ص615">، ورواه الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية وصححه، ورواه البيهقي في دلائل النبوة وهو لا يروي الموضوعات، كما صرح بذلك في مقدمة كتابه، وصححه أيضاً القسطلاني والزرقاني في المواهب اللدنية [ج1 ص62">، والسبكي في شفاء السقام، قال الحافظ الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط وفيه من لم أعرفهم (مجمع الزوائد ج8 ص253).وجاء من طريق آخر عن ابن عباس بلفظ: فلولا محمد ما خلقت آدم ولا الجنة ولا النار. رواه الحاكم في المستدرك (ج2 ص615) وقال: صحيح الإسناد، وصححه شيخ الإسلام البلقيني في فتاويه، ورواه أيضاً الشيخ ابن الجوزي في الوفا في أول كتابه ونقله ابن كثير في البداية (ج1 ص180).
شواهد لحديث توسل آدم
روى أبو الفرج ابن الجوزي بسنده إلى ميسرة قال: قلت: يا رسول الله! متى كنتَ نبياً؟ قال(لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله إنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه)).وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال: يارب! بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه: وما محمد ومن محمد؟ فقال: يا رب! إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك إذ قرنت اسمه مع اسمك، فقال: نعم، قد غفرت لك، وهو آخر الأنبياء من ذريتك، ولولاه ما خلقتك))
..فهذا الحديث يؤيد الذي قبله، وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة.
الشاهد الآخر لحديث توسل آدم هو ما أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن محمد بن علي بن حسين بن علي عليهم السلام قال: لما أصاب آدم الخطيئة عظم كربه واشتد ندمه فجاءه جبريل عليه السلام فقال: ((يا آدم! هل أدلك على باب توبتك الذي يتوب الله عليك منه؟ قال: بلى يا جبريل، قال: قم في مقامك الذي تناجي فيه ربك فمجده وامدح، فليس شيء أحب إلى الله من المدح، قال: فأقول ماذا يا جبريل؟ قال: فقل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، ثم تبوء بخطيئتك فتقول: سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت رب إني ظلمت نفسي وعملت السوء فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، اللهم إني أسألك بجاه محمد عبدك وكرامته عليك أن تغفر لي خطيئتي)). قال: ففعل آدم، فقال الله: يا آدم! من علّمك هذا؟ فقال: يا رب! إنك لما نفخت فيَّ الروح فقمت بشراً سوياً أسمع وأبصر وأعقل وأنظر رأيت على ساق عرشك مكتوباً بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا وحده لا شريك له محمد رسول الله، فلما لم أر على أثر اسمك اسم ملك مقرب، ولا نبي مرسل غير اسمه علمت أنه أكرم خلقك عليك، قال: صدقت، وقد تبت عليك وغفرت لك. (كذا في الدر المنثور للسيوطي ج1 ص146).ومحمد بن علي بن الحسين هو أبو جعفر الباقر من ثقات التابعين وساداتهم خرّج له الستة، روى عن جابر وأبي سعيد وابن عمر وغيرهم.
الجنة حرام على الأنبياء حتى يدخلها محمد
صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أمثال هذا التفضل الإلهي على حضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما جاء في الحديث من كون الجنة حراماً على الأنبياء حتى يدخلها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
((الجنة حرمت على الأنبياء وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي))..
(رواه الطبراني في الأوسط، وقال الهيثمي: إسناده حسن)..
[مجمع الزوائد ج10 ص69".
ارتباط الكون باسمه صلى الله عليه وسلم
ومن أمثال هذا التفضل الإلهي ما جاء في الآثار من انتشار اسمه محمد في الملأ الأعلى، قال كعب الأحبار:
إن الله أنزل على آدم عصياً بعدد الأنبياء والمرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث فقال: ابني أنت خليفتي من بعدي فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى، وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين، ثم إني طفت السماوات فلم أر في السماوات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه، وإن ربي أسكنني الجنة فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً عليه، ولقد رأيت اسم محمد مكتوباً على نحور الحور العين وعلى ورق قصب آجام الجنة وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى، وعلى أطراف الحجب وبين أعين الملائكة، فأكثروا ذكره فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها.
اه (المواهب اللدنية ج1 ص186).قال الزرقاني في شرحه: رواه ابن عساكر.
قلت: وقد ذكر نحو هذا الخبر الشيخ ابن تيمية، فقال: وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروى في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ.
وفي رواية لابن الجوزي عن ميسرة
قال: قلت: يا رسول الله! متى كنت نبياً؟
قال(لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش كتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام، وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله إنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه)).
اه (الفتاوى ج2 ص150).
فوائد مهمة من حديث توسل آدم: وفي الحديث التوسل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتشرف العالم بوجوده فيه وأن المدار في صحة التوسل على أن يكون للمتوسل به القدر الرفيع عند ربه عز وجل وأنه لا يشترط كونه حياً في دار الدنيا. ومنه يعلم أن القول بأن التوسل لا يصح بأحد إلا وقت حياته في دار الدنيا قول من اتبع هواه بغير هدى من الله.
حاصل البحث في درجة الحديث:والحاصل أن هذا الحديث صححه بشواهد ونقله جماعة من فحول العلماء وأئمة الحديث وحفاظه الذين لهم مقامهم المعروف ومكانتهم العالية وهم الأمناء على السنة النبوية فمنهم الحاكم والسيوطي والسبكي والبلقيني. ونقله البيهقي في كتابه الذي شرط فيه أن لا يخرج الموضوعات، والذي قال فيه الذهبي: عليك به فإنه كله هدى ونور. [كذا في شرح المواهب وغيره">.وذكره ابن كثير في البداية واستشهد به ابن تيمية في الفتاوى، وكون العلماء اختلفوا فيه فرده بعضهم وقبله البعض ليس بغريب لأن كثيراً من الأحاديث النبوية جرى فيها الخلاف بأكثر من هذا وانتقدها النقاد بأعظم من هذا.
وبسبب ذلك ظهرت هذه المؤلفات العظيمة، وفيها الاستدلالات والتعقبات والمراجعات والمؤاخذات، ولم يصل ذلك إلى الرمي بالشرك والكفر والضلال والخروج عن دائرة الإيمان لأجل الاختلافات في درجة حديث من الأحاديث، وهذا الحديث من جملة تلك الأحاديث.
توسل اليهود به صلى الله عليه وآله وسلم
قال تعالى:
{وَلَمَّا جَاءهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}
قال القرطبي قوله تعالى: ولما جاءهم – يعني اليهود – كتاب – يعني القرآن – من عند الله مصدق – نعت لكتاب ويجوز في غير القرآن نصبه على الحال وكذلك هو في مصحف أبي بالنصب فيما روى – لما معهم – يعني التوراة والإنجيل يخبرهم بما فيها – وكانوا من قبل يستفتحون – أي يستنصرون، والاستفتاح: الاستنصار استفتحت استنصرت، وفي الحديث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين أي يستنصر بدعائهم وصلاتهم. ومنه:
فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، والنصر فتح شيء مغلق فهو يرجع إلى قولهم: فتحت الباب.
وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
((إنما نصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم))..
وروى النسائي أيضاً عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:
((أبغوني الضعيف فإنكم إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم))..
قال ابن عباس: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فلما التقوا هزمت يهود فدعت يهود بهذا الدعاء، وقالوا:
إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان أن تنصرنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء فهزموا غطفان،
فلما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كفروا، فأنزل الله تعالى: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ}
أي بك يا محمد إلى قوله:
{فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ}.
تفسير القرطبي (ج2 ص26 و27)(9).
التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد وفاته
عن عثمان بن حنيف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجاءه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد وقد شق عليَّ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
((ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم قال اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبي الرحمة يامحمد إني أتوجه بك إلى ربك فيجلي لي عن بصري، اللهم شفعه فيَّ وشفعني في نفسي، قال عثمان: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر))
..قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.وقال الذهبي عن الحديث: أنه صحيح (ج1 ص519). وقال الترمذي في أبواب الدعوات آخر السنن: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر وهو غير الخطمي.قلت: والصواب أن أبا جعفر هو الخطمي المدني كما جاء مصرحاً به في روايات الطبراني والحاكم والبيهقي، وزاد الطبراني في المعجم الصغير أن اسمه عمير ابن يزيد وأنه ثقة، قال العلامة المحدث الغماري في رسالته ((اتحاف الأذكياء)): وليس من المعقول أن يجمع الحفاظ على تصحيح حديث في سنده مجهول خصوصاً الذهبي والمنذري والحافظ. قال المنذري: ورواه أيضاً النسائي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه. (كذا في الترغيب كتاب النوافل باب الترغيب في صلاة الحاجة (ج1 ص438).
وليس هذا خاصاً بحياته صلى الله عليه وآله وسلم بل قد استعمل بعض الصحابة هذه الصيغة من التوسل بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم فقد روى الطبراني هذا الحديث وذكر في أوله قصة وهي أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه في حاجة له، وكان عثمان رضي الله عنه لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقى الرجل عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل
:اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة، يامحمد! إني أتوجه بك إلى ربك فيقضي حاجتي. وتذكر حاجتك..
فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه على الطنفسة وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثم قال: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة ثم قال: ما كانت لك حاجة فائتنا، ثم إن الرجل لما خرج من عنده لقى عثمان بن حنيف وقال له: جزاك الله خيراً ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتى كلمته فيَّ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلمته، ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأتاه رجل ضرير فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:أو تصبر؟ فقال: يارسول الله! ليس لي قائد، وقد شق عليَّ، فقال له النبي(إئت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات، فقال عثمان ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط))..قال المنذري: رواه الطبراني، وقال بعد ذكره: والحديث صحيح. (كذا في الترغيب، [ج1 ص440 وكذا في مجمع الزوائد ج2 ص279">.وبهذا ظهر أن هذه القصة صححها الحافظ الطبراني والحافظ أبو عبد الله المقدسي، ونقل ذلك التصحيح الحافظ المنذري والحافظ نور الدين الهيثمي..
وحاصل القصة أن عثمان بن حنيف الراوي للحديث المشاهد للقصة علم من شكا إليه إبطاء الخليفة عن قضاء حاجته هذا الدعاء الذي فيه التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والنداء له مستغيثاً به بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، ولما ظن الرجل أن حاجته قضيت بسبب كلام عثمان مع الخليفة، بادر ابن حنيف بنفي ذلك الظن وحدثه بالحديث الذي سمعه وشهده ليثبت له أن حاجته إنما قضيت بتوسله به صلى الله عليه وآله وسلم وندائه له واستغاثته به، وأكد ذلك له بالحلف أنه ما كلم الخليفة في شأنه.
روى ابن أبي الدنيا في كتاب مجابي الدعاء قال: حدثنا أبو هاشم سمعت كثير بن محمد بن كثير بن رفاعة يقول: جاء رجل إلى عبد الملك بن سعيد ابن أبجر فجس بطنه فقال: بك داء لا يبرأ، قال: ما هو؟ قال: الدُّبَيْلَة،وهي خرّاج ودمل كبير تظهر في الجوف فتقتل صاحبها غالباً، قال: فتحول الرجل فقال: الله الله، الله ربي لا أشرك به شيئاً، اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبيّ الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم، يامحمد إني أتوجه بك إلى ربك وربّي يرحمني ممّا بي. قال: فجس بطنه فقال: قد برئت، ما بك علة.
محاولات يائسة
وقد طنطن ودندن بعضهم حول حديث توسل آدم وعثمان بن حنيف وغيره، وبذل جهده في ردّها بكل ما أوتي من قوة، وحاول وحاور وجادل وقام وقعد وأرغى وأزبد في هذا الموضوع، وكل ذلك لا فائدة منه لأنه مهما حاول ردّ الأحاديث الواردة في هذا الباب فقد قال ساداته من العلماء الكبار كلمتهم وهم أوفر منه عقلاً وأوسع علماً وأطول باعاً وأعمق فهماً وأكثر نوراً وتقوى وإخلاصاً،
مثل الإمام أحمد بن حنبل، وهو يقول بالتوسل كما نقله عنه ابن تيمية والعز ابن عبد السلام، وابن تيمية نفسه في قول له بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة، ثم نهاية المطاف عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي أنكر على من نسب القول إليه بتكفير المتوسلين، بل وصرح في فتاواه بأن التوسل من الفروع، لا من الأصول وكل ذلك سيأتي مفصلاً إن شاء الله في هذا الكتاب.
هذا وقد صنف الشيخ العلامة المحدث عبد الله الغماري رسالة خاصة في الكلام عن هذا الحديث سماها ((مصباح الزجاجة في صلاة الحاجة))، أجاد فيها وأفاد وأتى بما يشفي ويكفي ويغني، جزاه الله خير الجزاء.
التوسل به صلى الله عليه وآله وسلم
في يوم القيامة
أما التوسل به في يوم القيامة فلا حاجة للإطالة فيه فإن أحاديث الشفاعة بلغت مبلغ التواتر وكل ذلك فيه النصوص الصريحة التي تفيد بأن أهل الموقف إذا طال عليهم الوقوف واشتد الكرب استغاثوا في تفريج كربتهم بالأنبياء فيستغيثون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى فيحيلهم على سيد المرسلين حتى إذا استغاثوا به صلى الله عليه وآله وسلم، سارع إلى إغاثتهم وأسعف طلبتهم، وقال: أنا لها أنا لها، ثم يخر ساجداً ولا يزال كذلك حتى ينادي أن ارفع رأسك واشفع تشفع.
فهذا إجماع من الأنبياء والمرسلين وسائر المؤمنين وتقرير من رب العالمين بأن الاستغاثة عند الشدائد بأكابر المقربين من أعظم مفاتيح الفرج ومن موجبات رضى رب العالمين.جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:
((حياتي خير لكم ومماتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، تعرض أعمالكم عليَّ فإن وجدتُّ خيراً حمدت الله، وإن وجدت شراً استغفرت الله لكم)).
رواه الحافظ إسماعيل القاضي في جزء الصلاة على النبى صلى الله عليه وآله وسلم، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وصححه بقوله: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح كما سيأتي. وهذا صريح بأنه صلى الله عليه وسلم يستغفر للأمة في برزخه والاستغفار دعاء والأمة تنتفع بذلك وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:
((ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي
حتى أرد السلام))..
رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال النووي: إسناده صحيح. فهذا صريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد السلام على المسلم، والسلام هو الأمان فهو دعاء بالأمان للمسلم وهو ينتفع بذلك.
التوسل بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم
ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم وهذا التبرك ليس له إلا معنى واحد ألا وهو التوسل بآثاره إلى الله تعالى لأن التوسل يقع على وجوه كثيرة لا على وجه واحد.أفتراهم يتوسلون بآثاره ولا يتوسلون به؟
هل يصح أن يتوسل بالفرع ولا يصح بالأصل؟
هل يصح أن يتوسل بالأثر الذي ما شرف ولا عظم وكرم إلا بسبب صاحبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يقول قائل: إنه لا يصح أن يتوسل به؟
سبحانك هذا بهتان عظيم!.والنصوص الواردة في هذا الباب كثيرة جداً نقتصر على أشهرها،
فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يحرص كل الحرص على أن يدفن بقرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما حضرته الوفاة فيبعث ولده عبد الله ليستأذن السيدة عائشة في ذلك وإذا بالسيدة عائشة تعلن أنها كانت تريد هذا المكان لنفسها، فتقول كنت أريده لنفسي ولأوثرنه على نفسي فيذهب عبد الله ويبشر أباه بهذه البشارة العظيمة وإذا بعمر يقول: الحمد لله ما كان شيء أهم إليَّ من ذلك.
وانظر تفصيل القصة في البخاري فما معنى هذا الحرص من عمر ومن عائشة؟.
ولماذا كان الدفن بقرب رسول الله أهم شيء وأحب شيء إلى عمر؟
ليس لذلك تفسير إلا التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته بالتبرك بالقرب منه.
وهذه أم سليم تقطع فم القربة التي شرب منها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أنس فهو عندنا.
وهؤلاء الصحابة يتسابقون لأخذ شعرة واحدة من شعر رأسه لما حلقه.
وهذه أسماء بنت ابي بكر تحتفظ بجبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتقول: فنحن نغسلها للمرضى نستشفي بها.
وهذا خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتفظ به بعده أبو بكر وعمر وعثمان ثم يسقط منه في البئر.
وكل هذه الأحاديث ثابتة وصحيحة كما ذكرناه في مبحث التبرك والذي نريد أن نقوله هو أننا نتساءل لماذا هذه المحافظة منهم رضي الله تعالى عنهم على آثار النبي صلى الله عليه وسلم.
" فم القربة، الشعر، العرق، الجبة، الخاتم، المصلى "
فما مقصودهم من ذلك أهي الذكرى مجرد الذكرى أم هي المحافظة على الآثار التاريخية لوضعها في المتحف، فإن كانت الأولى فلماذا يعتنون بها عند الدعاء والتوجه إلى الله إذا أصابهم البلاء أو المرض، وإذا كانت الثانية فأين هذا المتحف ومن أين جاءتهم هذه الفكرة المبتدعة؟
سبحانك هذا بهتان عظيم.
لم يبق إلا التبرك بآثاره صلى الله عليه وآله وسلم للتوسل بها إلى الله في الدعاء لأن الله هو المعطي وهو المسؤول والكل عبيده وتحت أمره لا يملكون شيئاً لأنفسهم فضلاً عن غيرهم إلا بإذن الله سبحانه وتعالى.
التوسل بآثار الأنبياء
قال تعالى:
{وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} الآية من سورة البقرة.
قال الحافظ ابن كثير في التاريخ: قال ابن جرير عن هذا التابوت:
وكانوا إذا قاتلوا أحداً من الأعداء يكون معهم تابوت الميثاق الذي كان في قبة الزمان كما تقدم ذكره، فكانوا ينصرون ببركته وبما جعل الله فيه من السكينة والبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، فلما كان في بعض حروبهم مع أهل غزة وعسقلان غلبوهم وقهروهم على أخذه فانتزعوه من أيديهم اه.قال ابن كثير: وقد كانوا ينصرون على أعدائهم بسببه، وكان فيه طست من ذهب كان يغسل فيه صدور الأنبياء اه (البداية ج2 ص.وقال ابن كثير في التفسير:
كان فيه عصا موسى وعصا هارون ولوحان من التوراة وثياب هارون ومنهم من قال: العصا والنعلان.
[تفسير ابن كثير ج1 ص313".
وقال القرطبي: والتابوت كان من شأنه فيما ذكر أنه أنزله الله على آدم عليه السلام فكان عنده إلى أن وصل إلى يعقوب عليه السلام فكان في بني إسرائيل يغلبون به من قاتلهم حتى عصوا فغلبوا على التابوت غلبهم عليه العمالقة وسلبوا التابوت منهم. اه. (تفسير القرطبي ج3 ص247).
وهذا في الحقيقة ليس إلا توسلاً بآثار أولئك الأنبياء إذ لا معنى لتقديمهم التابوت بين أيديهم في حروبهم إلا ذلك والله سبحانه وتعالى راض عن ذلك بدليل أنه رده إليهم وجعله علامة وآية على صحة ملك طالوت ولم ينكر عليهم ذلك الفعل.
توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بحقه وحق الأنبياء والصالحين
جاء في مناقب فاطمة بنت أسد
أم علي بن أبي طالب
_كرم الله وجهه_
إنها لما ماتت حفر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
لحدها بيده وأخرج ترابه بيده فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاضطجع فيه فقال:
((الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين. وكبر عليها أربعاً وأدخلوها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم))..
رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وفيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح.[ كذا بمجمع الزوائد ج9 ص257 ">.واختلف بعضهم في [روح بن صلاح"> أحد رواته، ولكن ابن حبان ذكره في الثقات، وقال الحاكم: ثقة مأمون، وكلا الحافظين صحح الحديث، وهكذا الهيثمي في [مجمع الزوائد"> ورجاله رجال الصحيح.
ورواه كذلك ابن عبد البر عن ابن عباس، وابن أبي شيبة عن جابر، وأخرجه الديلمي وأبو نعيم، فطرقه يشد بعضه بعضاً بقوة وتحقيق.
قال الشيخ الحافظ الغماري في إتحاف الأذكياء ص20: وروح هذا ضعفه خفيف عند من ضعفه كما يستفاد من عباراتهم، ولذا عبر الحافظ الهيثمي بما يفيد خفة الضعف كما لا يخفى على من مارس كتب الفن. فالحديث لا يقل عن رتبة الحسن بل هو على شرط ابن حبان صحيح.
ونلاحظ هنا أيضاً أن الأنبياء الذين توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحقهم على الله في هذا الحديث وغيره قد ماتوا فثبت جواز التوسل إلى الله بالحق" وبأهل الحق أحياء وموتى.
توسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
بحق السائلين
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
من خرج من بيته إلى الصلاة، فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، أقبل الله بوجهه واستغفر له سبعون ألف ملك
قال المنذري في الترغيب والترهيب ج3 ص119: رواه ابن ماجه بإسناد فيه مقال، وحسنه شيخنا الحافظ أبو الحسن.
وقال الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار ج1 ص272: هذا حديث حسن، أخرجه أحمد وابن خزيمة في كتاب التوحيد، وأبو نعيم وابن السني.وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء ج1 ص323 عن الحديث: بأنه حسن.وقال الحافظ البوصيري في زوائد ابن ماجه المسمى ((بمصباح الزجاجة)) ج1 ص98: رواه ابن خزيمة في صحيحه.وقال الحافظ شرف الدين الدمياطي في المتجر الرابع ص471: إسناده حسن إن شاء الله.وذكر العلامة المحقق المحدث السيد علي بن يحي العلوي في رسالته اللطيفة هداية المتخبطين: أن الحافظ عبد الغني المقدسي حسّن الحديث، وقبله ابن أبي حاتم، وبهذا يتبين لك أن هذا الحديث صححه وحسنه ثمانية من كبار حفاظ الحديث وأئمته، وهم: ابن خزيمة والمنذري وشيخه أبو الحسن والعراقي والبوصيري وابن حجر وشرف الدين الدمياطي وعبد الغني المقدسي وابن أبي حاتم، وهؤلاء منهم فهل يبقى بعد قول هؤلاء كلام المتكلم، وهل يصح من عاقل أن يترك حكم هؤلاء الفحول من الرجال الحفاظ المتقنين إلى قول المتطفلين على موائد الحديث. {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}. {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.